[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائية السورية هيفا بيطار
لم يعد بإمكاني على الإطلاق أن أكون ذاتي منذ بداية الثورة السورية، صار وجودي نفسه يُربكني، كما لو أنني كنت امرأة من ضباب وحين تفجرت الثورة السورية فُرض علي أن أتجسد وأصير إنسانة واضحة الملامح والشخصية، وبدأتُ عملية البحث عن ذاتي شاعرة أنني مفصومة عن كل كتبي السابقة التي كتبتها، والتي تزيد عن 35 كتاب ( بين رواية وقصة).. الثورة السورية أعادت خلقي بطريقة عجيبة كما لو أنها حولتني إلى حفنة من البذور رمتها في التربة السورية المُشبعة بدم أبنائها، لم يعد بإمكاني أبدًا أن أكون ذاتي الثابتة المحددة الصفات والتي تعتقد أنها تمارس الحياة كطبيبة عيون في مشفى حكومي وكاتبة.
صرتُ أخاف أن أنظر في وجهي في المرآة لأنني لا أرى صورتي بل صورهم، صور أحبائي السوريين المُروعين والضحايا كما لو أنهم تنويعات للمآسي، صرتُ مسكنًا لهم، كل يوم يسكنني أحدهم، أتماهى معهم وأصيرهم، طوال حياتي لم أشعر بوحدة حال وإنسجام بيني وبين نفسي كما شعرت حين تماهيت مع أبطال – أو ضحايا – لا فرق الثورة السورية، كنت أقف مقابل الدكان الصغير الذي يبيع الفول والحمص، دكان إسماعيل زرطيط إبن الثامنة والعشرين ربيعًا والذي كان طالبًا في قسم اللغة الإنكليزية، اسماعيل الشاب الجميل الناشط على الفيس بوك المنتشي ببذور الحرية في روحه أعتقل وسُلم إلى أهله بعد عشرة أيام من إعتقاله جثة، في خاصرتها فجوة تتسع لبطيخة صغيرة، كنت أشعر أنني اسماعيل وأشعر بفجوة في خاصرتي، كان وحيدًا وكنت أجلس أمام صوره وأمام أمه الصامتة التي تشبك أصابع يديها ببعضها غائبة في عالم آخر، كتبت عن إسماعيل كي لا يصير رقمًا، كي أشعر أنه يمكن أن يعيش وجودًا مُختلفًا من خلال كتابة إنسانة تكتشف الكتابة الحقيقية: الكتابه بالدم وليس بالحبر، ربما ساعدني عملي في المشفى الحكومي كطبيبة عيون كي أشهد على مآسي السوريين، كنتُ أخرج من المشفى تتقمصني شخصية سعاد الممرضة الخمسينية التي رأت صورة إبنها في الجيش السوري وقد قطعت رأسه جماعة متطرفة، سعاد كانت كالخرقة، متلاشية من الألم، تطلب مني أن أكتب لها دومًا وصفات المورفين لتسكين أوجاع روحها، كنت أتسكع في شوارع اللاذقية المُنتهكة وأتأمل المنافسة بين قطه وطفل على محتويات حاوية القمامة، وأتوقف فجأة إذ تُضيئ حواسي فجأة وأحس تمامًا بمشاعر سعاد وهي تتخيل إبنها مقطوع الرأس، أتابع تسكعي في سوق الخضار المركزي الطافح بالقذارة فأتحول فجأة إلى هلال، الشابة الحلبية ذات العشرين ربيعًا والتي شهدت سقوط البرميل المتفجر على بيتها، هلال المتزوجة من شاب أحبته تضطر للنزوح إلى اللاذقية ولا تبكي إلى على ألبوم صور عرسها الذي لم تستطع أن تحمله معها، تبكي وتقول: ثمة هدايا العرس لا تزال محزومة لم أفتحها بعد، تتقمصني هلال فأردد كببغاء: أبوس روحك يا حلب، أعود إلى البيت من رحلة تسكعي وقد اشتريت كل ما لا يلزمني كي أوهم نفسي أنني حية، أجلس لأكتب عن هلال، ثم أجدني أكتب عن أحمد الشاب المتخرج حديثًا من كلية هندسة الإتصالات والذي علقوا بندقية في كتفه ورموه عند حاجز، فمرت سيارة تضم ملثمين أطلقوا عليه الرصاص فمات بالبساطة التي تموت فيها الفراشات المحترقة بالنور، أحاول بنفاذ صبر أن أركز حواسي وأتخيل الصورة الأخيرة التي عبرت خيال أحمد والرصاص الحي يخترق جسده الذي يفارق الحياة للتو، وجدتني بعد مدة أدفع للنشر كتابي "وجوه من سورية" طباعة (دار الساقي) وللمرة الأولى أترك أسماء الأشخاص كما هي لأحافظ على نضارة الألم، الكتاب يضم قصصًا حقيقية لأشخاص سوريين سكنوني وسكنتهم، ومن موتهم وُلدت لغتي الجديدة التي لا تشبه سابقتها، في السابق كنت أكتب كما لو أنني أطير لاحقة غيوم أفكاري، الآن أكتب شاعرة أن قدمي مغروستان في وحل من الدم، أتمرغ به وأصرخ ملتاعة صرخات خرساء فيأتيني صداها أنين أطفال الحولة الذين ذُبحوا ولا تزال أحلام طفولتهم ترفرف على أهدابهم، ولا تزال رائحة حليب الأم تفوح من أفواههم، أنطوي من الألم وأصرخ أو أئن: لا طاقة لي على إحتمال كل هذا الألم، لا طاقة لي أن أعيش في وطن كالغول يأكل كل يوم أبناءه، عزلاء تمامًا ووحيدة في مواجهة ألم لا يُطاق أبحث عن طاقة نجاة، عن مُسكن لأوجاع الروح، أعيد خلق الضحايا وأنا أجلس وعيناي تطوفان بالدمع الذي أحسه يتدفق من بركة الدموع في روحي وأكتب عن هؤلاء، عن طفل التفاح، الطفل السوري رث الهيئة الذي يتوسد الرصيف وبجانبه طبقًا من التفاح المصبوغ بالأحمر، طفل التفاح غائب عن العالم حوله لأن أحدًا ما قد أعطاه قطعة صمغ ليشمها فتخدر وعيه وتُخرب خلايا دماغه، "طفل التفاح" هو عنوان مجموعتي القصصية الثانية التي طبعتها منذ أشهر في (الدار العربية للعلوم). والتي هي تكملة لكتابي "وجوه من سوريا"، تركت فيه الضحايا يحكون قصصهم يولدون من تلاقح حبر أسود مع ورق أبيض وأنا لست سوى شاهدة عصر، ووجودي كله إنعكاسًا لوجودهم. ما أنا إلا مرآتهم ، وأستطيع أن أكون كل واحد فيهم تمامًا. الكتابة شرف وشهادة والأهم أنها مع كل كلمة وكل حرف نكتبه تلعب لعبة لي الذراع مع الخوف، الخوف المُتجذر في نفوسنا كما خلايا السرطان تغزو الجسد. أدين لأحبائي السوريين الذين كتبت عنهم والذين لم أكتب عنهم بعد، أدين لهم لأنهم حرروني حقًا من الخوف وبأنني ولدت ولادة ثانية حقيقية وتعمدت بمعمودية الدم، وبأن ولائي لهم وحدهم وللحقيقة ، لأن الحق وحده يحررنا. الكتابة ممكنة في أي وقت وتحت أي ظرف حتى ونحن ننازع ونعتقد أننا نموت فتأتي الكتابة لتحينا. لكن ثمة من كتب منذ بداية الثورة السورية كتابة أسميها ببساطة كتابة العار لأنه أشبة بضربة على الحافر وضربة على النافر، لأنه كما أن هنالك تجار حروب وناس إغتنوا من الحرب، هناك كتاب جللوا الكتابة بالعار واللامصداقية، أي كاتب هذا الذي يتناول طعام الغداء في منزل رياض الترك ثم يتناول عشاءه في مبنى المخابرات العسكرية. لكن الزمن كفيل أن يكشف النفاق والقناع عن كل هؤلاء الكتّاب المُقاولين. فالثورة السورية ثورة كرامة وشرف وحرية وهي أول ما ستفعله أنها ستحرق الطحالب والمزيفين.
*************
هيفاء بيطار في سطور:
ولدت الكاتبة والروائية السورية وطبيبة العيون هيفاء باسيل بيطار في مدينة اللاذقية عام 1960. تخرجت من كلية الطب البشري من جامعة تشرين في اللاذقية عام 1982. وحصلت على الاختصاص بأمراض العين وجراحتها من جامعة ـدمشق عام 1986. وهي تمارس عملها كطبيبة في مشفى اللاذقية الحكومي.
تكتب المقالة الأدبيّة والنقديّة في عدد من الصحف والمجلات والدوريات العربية، ولها إنتاج قصصي وروائي غزير، وقد خصصت عددًا من أعمالها للدفاع عن قضايا المرأة في العالم العربي.
حازت في العام 2002 "جائزة أبي القاسم الشابي" في تونس، عن مجموعتها القصصية "الساقطة" (مخطوطة من بين مئة وخمسين مخطوط)، ورفض اتحاد الكتاب العرب/ سوريا طباعتها، فصدرت عن "دار السوسن" في دمشق عام 2006.
ومنذ الأيام الأولى لإندلاع الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، وقفت صاحبة "وجـوه من سورية"، مع الحرية والكرامة وحق الإنسان بالعيش دون خوف. وهي –بحسب النقاد- "كاتبة تتمتع بأسلوب تطغى عليه روحُ التمرد والجرأة في نسجها للقصص من واقعنا المعاصر".
"بيطار" التي تمارس الطب بعين كاتبة وتمارس الكتابة بموضوعية طبيب. أعلنت أكثر من مرة، أن الأولوية بالنسبة إليها هي للكتابة، لذا، تبدّيها على حياتها المهنية والشخصية. مؤكدة أنه: "لا ولاء لي إلا الحقيقة، ورسالتي أن أكون شاهدة عصر.. بعد أن صار الزمن في سوريا يقاس بعدد القتلى وليس بالساعة!"، وهي من أجل تحقيق ذلك، تقف في المكان الأكثر حقيقة وشفافية: في مستشفى اللاذقية، حيث تعمل كطبيبة اختصاصية في أمراض العيون وجراحتها. تكتب قصص وحكايات مرضاها وأوجاعهم، "أكتب عن بشر من لحم ودم ماتوا أو عطبوا أو تشردوا. من واجبي الأخلاقي والإنساني أن أكفنهم بقصة".
والكتابة كما تفهمها صاحبة "امرأة من هذا العصر"، هي "شرف الكلمة وشجاعة البوح بالمسكوت عنه، وقد ساعدتني مهنتي طبيبة عيون في أن أكون أكثر التصاقًا بأوجاع الناس وحياتهم وأسرارهم، وأحس دومًا أنني أمارس الطب بروح كاتبة".
لا تكشف الطبيبة الكاتبة سرًا حين تخبرنا أن "الشعب السوري نزح أكثر من ثلثه ومات منه مئات الآلاف ومعظم أطفاله لا يتلقون التعليم". وأنه "أمام هذا الواقع من القتل اليومي ومن الدمار للبلاد والموت للعباد يبدو الحلم الوردي للربيع العربي بعيدًا، لكنه غير مستحيل".
وعن حالنا اليوم في الوطن النازف منذ خمس سنوات ونيف، تقول صاحبة "أبواب مواربة": "كما لو أنه علينا أن نختار بين الرمد والعمى. ونحن نريد عينين سليمتين تريان عشرة من عشرة. ونؤمن أننا نستحق نظام حكم عادلًا، والأهم يمثلنا. في سوريا مثلًا، لا أحد يمثل الشعب السوري لا المعارضات المختلفة المتناحرة ولا النظام." ولكن ورغم كل هذا، تؤكد "بيطار" أنها "مومنة أن ثورة الشعب العربي أو الربيع العربي لا يمكنها أن توأد أو تتراجع مهما تعثرت لأنها كالمارد الذي خرج من القمقم، لم يعد لدى الناس ما يخشونه، فمن يذق طعم الحرية والكرامة ولو لمرة واحدة فقط لا يستطيع التراجع أو التخندق في شرنقة الصمت والخوف مهما حاولت أنظمة الاستبداد تخويف الناس من القادم المتطرف".
في كتابها "وجوه من سورية" (دار الساقي، بيروت 2013)، تبدأ "بيطار" بكتابة مقدمة من صفحتين، تشرح فيها استحالة كتابة الرواية وهي "جالسة على فوهة بركان"، محاولة رصد الخوف، الجثث، أبطال الثورة الحقيقيين الذين لا يزالون على قيد الحياة، حتى اللحظة كما تقول، وتعتبرهم صنّاع حجر الأساس "لوطن سيعلّم العالم قوة القيامة وقوة الحق".
صدر لها من الروايات:
- "يوميات مطلقة"، دار الأهالي، دمشق 1994.
- "قبو العباسيين"، دار الأهالي، دمشق 1995.
- "أفراخ صغيرة ، أفراخ أخيرة"، دار الأهالي، دمشق 1996.
- "نسر بجناح وحيد"، دار الحصاد، دمشق 1998.
- "امرأة من طابقين"، مكتبة بالميرا، اللاذقية 1999.
- "أيقونة بلا وجه"، دار نلسن، بيروت 2000.
- "امرأة من هذا العصر"، دار الساقي، بيروت 2007.
- "أبواب مواربة"، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2007.
- "هوى"، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2007.
- "نساء بأقفال"، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2007.
- "امرأة في الخمسين"، دار الساقي، بيروت 2014.
صدرت معظم أعمال الكاتبة هيفاء بيطار في أكثر من طبعة بين دمشق وبيروت. ولها أكثر من 12 مجموعة قصصية.